الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الاستنفار للذب عن الصحابة الأخيار **
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن إله إلا الله وحد لا شريك له رب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم ، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله المبشر النذير والسراج المنير - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعـد : فإن من العقائد والأصول المقررة في الإسلام حب الصحابة من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان واعتقاد فضيلتهم وصدقهم والترحم على صغيرهم وكبيرهم وأولهم وآخرهم وصيانة أعراضهم وحرماتهم فذلك أمر ضروري وهو أحد الضروريات الخمس - الدين والنفس والنسل والعقل والمال - التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها وضبط حقوقها [انظر الموافقات (1/31) للشاطبي ] والأخذ على يد من هتكها ، وقد قال النبي - صلى الله عـليه - وسـلم في مجمـع عظيم من أعظم مجامع المسلمين ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا فليبلغ الشاهد الغائب ) رواه البخاري (67) ومسلم (1679) من طريق ابن سيرين عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة رضي الله عنه . فهتك عرض المسلم والجناية عليه عظيم عند الله ورسوله والمؤمنين ، وهو من كبائر الذنوب ومن التشبه بالمنافقين وأعظم منه غمس الألسنة والأقلام في أهل العلم ومحاولة إسقاط قدرهم بأوهام من هنا وهناك والإيغال بالدخول في نياتهم ومقاصدهم والصد عن سبيلهم والاستخفاف بحقوقهم . قال الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله ( مـن استخف بالعلماء ذهبت آخرته ) [ سير أعلام النبلاء (8/408 _ 17/251)] وقال الإمام الطحاوي في عقيدته : ( وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر - لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل ) [العقيدة الطحاوية ( ص 58 ) بتعليق الشيخ الألباني رحمه الله]. وقال الحافظ ابن عساكر : ( واعلم يا أخي - وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء - رحمة الله - عليهم مسمومة ، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة ؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم ، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم ، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم ) [تبيين كذب المفتري ( ص 49]. وأكبر ظلماً وأسوأ حالاً من هذه البلية العظيمة احتراف هذه الظاهرة في الصحابة الكرام وإطلاق العنان للسان يفري في أعراضهم وعدالتهم ويحطم حقائق تاريخهم . وقد عدَّ أهل العلم ذلك زندقة وقرروا أنه ( لا يبسط لسانه فيهم إلا من ساءت طويته في النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والإسلام والمسلمين ) [كتاب الإمامة ( ص 376 ) للإمام أبي نعيم الأصبهاني]. فهم خير الناس للناس وأفضل تابع لخير متبوع وهم الذين فتحوا البلاد بالسنان والقلوب بالإيمان ، ولم يعرف التاريخ البشري منذ بدايته تاريخاً أعظم من تاريخهم ولا رجالاً دون الأنبياء أفضل منهم ولا أشجع ، ومن داخله شك في هذا فلينظر في سيرهم على ضوء الأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة يرى أمراً هائلاً من حال القوم وعظيم ما آتاهم الله من الإيمان والحكمة والشجاعة والقوة . وحين ضن غيرهم بالنفس والمال واستثقلوا مفارقة الأهل والولدان استرخصوها في إقامة الدين وتمكين الأمم والشعوب من العيش في أمن ورغد تحت حكم الإسلام فلا كان ولا يكون مثلهم فهم غيض العداء وأهل الولاء والبراء وأنصار الدين ووزراء رسول رب العالمين . وقد اصطفاهم الله لصحبة نبيه ونشر دينه فأخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور أهل الطغيان إلى عدل الإسلام ، وعلى أيديهم سقطت عروش الكفر وتحطمت شعائر الإلحاد وذلت رقاب الجبابرة والطغاة ودانت لهم الممالك . ولذا رأيت أن من خير الزاد ليوم المعاد تحريك القلم بلطائف من الإشارات المهمة وشذرات من المعارف المختصرة لدفع عدوان الظالمين وكشف زوبعة المتعالمين وتبرئة الصحابة المتقين ومناصرتهم من أقلام الحاقدين وجهلة الأدباء والمؤرخين الخائضين في هذا المقام الكبير بالجهل والهوى وقلب الحقائق والاعتماد في ذلك على الآثار الضعيفة والأخبار الواهية والمتروكة . وقد زاد جرم هؤلاء وعظم فعلهم حين طعنوا في كوكبة من الصحابة وأوغروا الصدور عليهم بسوء الظن وفرض احتمالات وتكهنات ليس لها أصل في الشرع ولا مكان في العقل في حين ترى بعضاً من أولئك يحسنون الظن بالرافضة ودعاتهم والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية ومدارسهم ويعظمون رجالات الفكر المنحرفين وزعماء الفساد الملحدين ويحتفون بكتبهم وآرائهم ويضفون عليها الدقة في التحقيق والسلامة في القصد والعظمة في الإنصاف . وقد لقيت نفراً ممن تشبعت نفوسهم بهذا الفكر ، فكانت بداية الحديث عن العدل والإنصاف وحفظ حقوق العلماء والمجتهدين وأهل الفكر والأدب من المسلمين فعّمت الارتياحية وهشّوا وبشوا وبلغ التفاعل والحماس أشده ، وكنت أوافقهم على هذا الأصل ومشروعية العدل في تقويم الناس والحديث عن جهودهم بيد أن القوم يرمون إلى شيء ، فحين جاء الحديث عن الصحابة ومنـزلتهم وضلال أعدائهم غاب العدل عن وعيهم وعميت بصيرتهم عن ذلك . فتسارعوا في الكذب ورواية الأباطيل وجهدوا في تنقص أفراد من مسلمة ما قبل الفتح وجماعات ممن أسلم بعد ذلك ، وبالأخص معاوية - رضي الله عنه - فتعجبت حينئذ من دعواهم الإنصاف والمطالبة بالعدل في الحكم على الآخرين وهم يلوكون ألسنتهم في جند الله المفلحين الذين أقام الله بهم دينه ودفع بهم بأس أعدائه . وعجلت آنذاك إلى الله وجهدت في الهرب من غضبه وسخطه فأطلقت العنان للّسان يبين سوء منهجهم ويبدي عظيم فعلهم وفساد أفكارهم . وبسطت القول في حقوق الصحابة وكبير منـزلتهم ولا سيما معاوية - رضي الله عنه - فقد ناله من سلاطة ألسنتهم ما لم ينل غيره . فما كان جوابهم إلا أن قالوا هذه المسألة اجتهادية وليست من القطعيات فعلمت حينئذ أنهم دعاة هدم وفساد وليسوا من الإصلاح والعدل بشيء . فإلى البيان في نصرة أئمة الدين وحماية أعراض زعماء تاريخ الأمة الإسلامية من مفتريات المفتونين بتصيد العثرات والتجريح بالشهوات. من سمات أهل السنة والجماعة وعلامات أهل الأثر والاتباع سلامة قلوبهم وألسنتهم للصحابة الأخيار وحملة الشريعة الأتقياء الأبرار والذب عن حرماتهم وأعراضهم من رموز الجراحين وثلب العابثين وألسنة الحاقدين ، والزجر والتغليظ على من تعلق بخيوط الأوهام وبات في أودية الظلام فغمس لسانه في البهت والآثام وسلب من الصحابة العدالة وجعلهم كسائر الأنام لهم مالهم وعليهم ما عليهم فولغ في حرماتهم وأعراضهم وجمع مساويهم وعثراتهم . وقد أنكر الإمام أحمد - رحمه الله - على من جمع الأخبار التي فيها طعن على بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغضب لذلك غضباً شديداً وقال : ( لو كان هذا في أفناء الناس لأنكرته ، فكيف في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : أنا لم أكتب هذه الأحاديث ، قال المروذي : قلت لأبي عبدالله : فمن عرفته يكتب هذه الأحاديث الرديئة ويجمعها أيهجر؟ قال : نعم يستأهل صاحب هذه الأحاديث الرديئة الرجم ) رواه الخلال في السنة ( 3/501) بسند صحيح [وانظر الشرح والإبانة لابن بطة ص (268-269) والحجة في بيان المحجة للإمام الأصبهاني (2/368-371) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للإمام اللالكائي (7/1241-1270) وعقيدة السلف وأصحاب الحديث للإمام أبي عثمان الصابوني = ص (80-81) والعقيدة الطـحاوية ص (57) بتحقيق الشيخ الألباني -رحمه الله - والصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام (3/1085]. وقد امتطى هذه الأخبار المروية في مساويهم دعاة الفتنة والضلالة فاستخفوا بحرمات المؤمنين ووزراء رسول رب العالمين فبسطوا ألسنتهم في تجريحهم والتشفي منهم بضروب من التطاول والقذف بالباطل ، وهذا التربص منتهاه نزع الثقة عن خيار الأمة والتشكيك في أعمالهم وفتوحاتهم وعلومهم وعدالتهم ، وقد مضت الأمة خياراً عن خيار على مدح الصحابة والثناء عليهم وحسن الظن بهم والكف عن مساويهم وسوء الظن بهم . فيا ويل من تعرض لهم بسوء وأوقد نار الفتنة وجرأ السفهاء والغوغاء على الوقيعة فيهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ، ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه ) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد به [البخاري رقم (3673) ومسلم رقم ( 2541) ج (4/ 1967] ، ورواه مسلم في صحيحه من طريق جرير عن الأعمش بلفظ : ( كان بين خالد بن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسبوا أحداً من أصحابي ... ) وهذه الزيادة في سبب ورود الحديث غير محفوظة ، فقد رواه عن الأعمش سفيان الثوري [رواه ابن أبي عاصم في السنة (988) عن عباس بن الوليد حدثنا بشر بن منصر عن سفيان به ، وجاء في زيادات القطيعي على فضائل الصحابة لأحمد ( 1/365) رواية الخبر من طريق سفيان عن الأعمش بالزيادة والأول أصح]. وشعبة ووكيع وأبو معاوية وغيرهم وهم أضبط وأحفظ الناس لحديث الأعمش ولم يذكروا هذه الزيادة على أنه قد اختلف على جرير فيها فقد رواه ابن ماجه ( 161) عن محمد بن الصباح عن جرير [وقد جعله من مسند أبي هريرة وهذا غلط] بدونها ولذا أعرض عنها البخاري - رحمه الله - وقال مسلم - رحمه الله - في صحيحه ( 4/1968) بعد ذكر الرواة عن الأعمش ( وليس في حديث شعبة ووكيع ذكر عبدالرحمن بن عوف وخالد بن الوليد ) وهذا هو الصواب ، وروى أحمد في فضائل الصحابة [ج(1/57] وابن ماجه [رقم (162] بسند صحيح من طريق سفيان عن نُسيرين ذُعلُوق وهو ثقة ، قال : كان ابن عمر يقول : ( لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عُمرَه ). وقـال الإمام محمد بن صُبيح بن السماك [انظر ترجمته في تاريخ بغداد (5/368)]. " علمت أن اليهود لا يسبون أصحاب موسى - عليه السلام - وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى - صلى الله عليه وسلم - فما بالك يا جاهل سببت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد علمتُ من أين أُتيت ، لم يشغلك ذنبك ، أما لو شغلك ذنبك لخفتَ ربك ، لقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين فكيف لم يشغلك عن المحسنين ، أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين ولرجوت لهم أرحم الراحمين ، ولكنك من المسيئين ، فمن ثَّم عبت الشهداء والصالحين ، أيها العائب لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لو نمت ليلك وأفطرت نهارك لكان خيرا لك من قيام ليلك وصوم نهارك مع سوء قولك في أصحاب محمد ، فويحك ! لا قيام ليلٍ ولا صوم نهار وأنت تتناول الأخيار ، فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى ويـحك ! هؤلاء شرفوا في أُحد وهؤلاء جاء العفو عن الله تعالى فيهم فقال : وقد اتفق أهل العلم على أنهم خير الناس بعد الأنبياء فقد جاء في الصحيحين من طريق إبراهيم عن عبيدة عن عبدالله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( خير الناس قرني ... ) [البخاري (2652) ومسلم (2533)] وأفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وأدلة هذا كثيرة وعامة أهل العلم على هذا ، وقد جعل الله جل وعلا بقاء الصحابة أمنة للأمة فإذا ذهب قرنهم وانقرض جيلهم حلت بمن بعدهم الفتن وظهرت البدع وفشا الجور والفساد ففي صحيح مسلم [رقم (2531)] من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبيه قال : صلينا المغرب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قلنا : لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء ، قال : فجلسنا فخرج علينا فقال : ( ما زلتم ههنا ؟) قلنا : يا رسول الله ، صلينا معك المغرب . ثم قلنا ، نجلس حتى نصلي معك العشاء ،قال : ( أحسنتم أو أصبتم ) قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً مما يرفع رأسه إلى السماء فقال ( النجوم أمنة للسماء . فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد . وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) . وهذا دليل على فضلهم وعظيم ما دفع الله بهم من البدع والفتن والجور والفساد فلا جرم أن جعلهم الله وزراء نبيه وحزب خليله . قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - ( إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب الصحابة خير قلوب العباد فجعلهم الله وزراء نبيه يقاتلون على دينه ) رواه الإمام أحمد (1/379) من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبدالله وسنده حسن . وذكر قتادة عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : ( من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً ، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ) رواه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله [ورواه أبو نعيم في الحلية (1/305) من طريق عمر بن نبهان عن الحسن عن عبدالله ابن عمر - رضي الله عنه - وسنده ضعيف ، عمر بن نبهان : ضعفه يعقوب بن سفيان والعقيلي وجماعة ، وقال يحيى بن معين : ليس بشيء ، وعنه : ثقة ، وقال البخاري : لا يتـابع على حديثه ، وقال ابن حبان في المجروحين (2/90) : يروي المناكير عن المشاهير فلما كثر ذلك في حديثه استحق الترك . وقال ابن حجر في التقريب (4975) ضعيف ، وهذا العدل فيه .والحسن عن ابن عمر قيل :لم يسمع ، وفيه نظر . قال بهز : سمع حديثاً " المراسيل لابن أبي حاتم ص43 " . وقال أحمد وأبو حاتم : سمع الحسن من ابن عـمر " المراسيل ص 43-44 " . وقيل لأبي زرعة : الحسن لقي ابن عمر ؟ قال : نعم . وروى الخبر الآجري في الشريعة (1161) وابن عبدالبر (2/97) من طريق الدورقي نا حكّام بن سلم الرازي عن عمرو بن أبي قيس عن عبدربه قال كان الحسن في مجلس فذكـر أصحـاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ( إنهم أبرّ هذه الأمة قلوباً ... ) وهذا أصح ]. وفيه انقطاع ، فقد توفي ابن مسعود قبل أن يولد قتادة . قال شيخ الإسلام -رحمه الله - : ( وقول عبدالله بن مسعود : كانوا أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً ؛ كلام جامع بيّنَ فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم ، وبين فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف) [منهاج السنة (2/79)] وقال الإمام ابن أبي حاتم - رحمه الله - ( فأما أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم الذين شهدوا الوحي والتنـزيل وعرفوا التفسير والتأويل وهم الذين اختارهم الله - عز وجل - لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه فرضيهم له صحابة وجعلهم لنا أعلاماً وقدوة فحفظوا عنه - صلى الله عليه وسلم - ما بلغهم عن الله - عز وجل - وماسن وما شرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وأدب ، ووعوه وأتقنوه ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهم منه واستنباطهم عنه ، فشرفهم الله - عز وجل - بما مَنَّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز وسماهم عدول الأمة ، فقال - عز ذكره - في محكم كتابه : وقال الإمام أبو نعيم الأصبهاني - رحمه الله - عن الصحابة : ( سمحت نفوسهم - رضي الله عنهم - بالنفس والمال والولد والأهل والدار ، ففارقوا الأوطان وهاجروا الإخوان وقتلوا الآباء والإخوان وبذلوا النفوس صابرين وأنفقوا الأموال محتسبين وناصبوا من ناوأهم متوكلين ، فآثروا رضاء الله على الغناء ، والذل على العز ، والغربة على الوطن ، هم المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون حقاً ، ثم إخوانهم من الأنصار أهـل المواساة والإيثار أعز قبائل العرب جاراً ، واتخذ الرسول - عليه السلام - دارهم أمناً وقراراً ، الأَعفّاء الصبر والأصدقاء الزهر فمن انطوت سريرته على محبتهم ودان الله تعالى بتفضيلهم ومودتهم وتبرأ ممن أضمر بغضهم فهو الفائز بالمدح الذي مدحهم الله تعالى فقال فالصحابة - رضي الله عنهم - هم الذين تولى الله شرح صدورهم فأنزل السكينة على قلوبهم وبشرهم برضوانه ورحمته فقال : جعلهم خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويطيعون الله ورسوله فجعلهم مثلاً للكتابين لأهل التوراة والإنجيل خير الأمم أمته وخير القرون قرنه يرفع الله من أقدارهم إذ أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمشاورتهم لما علم من صدقهم وصحة إيمانهم وخالص مودتهم ووفور عقلهم ونبالة رأيهم وكمال نصيحتهم وتبين أمانتهم رضي الله عنهم أجمعين ) [الإمامة والرد على الرافضة (209-211)]. وهذا محل اتفاق من أهل السنة فلا كان ولا يكون مثل الصحابة - رضي الله عنهم - في إمامتهم وفضلهم وسبقهم وعلو مقامهم بالأمر والنهي والعلم والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ولهذا قيل : ( كل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات ودخول الجنة والنجاة من النار وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله ، وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة - رضي الله عنهم - الفضل إلى يوم القيامة ) [من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ، وانظر طريق الهجرتين للإمام ابن القيم - رحمه الله - ( ص 362 )] . وقد قال تعالى - في فضلهم ومآلهم - ولفظ الصحبة يصدق على كل مسلم لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لحظة ومات على ذلك ، ومن ثبت لـه شرف الصحبة لا يتطلب شروط التعديل بل يُكتفى بشرف الصحبة تعديلاً . وقد زعم بعض أهل الأهواء أن الصحبة لا تصح إلا لمهاجري وأنصاري وحينئذ لا تثبت عدالة من جاء بعدهم إلا بما تثبت به عدالة غيرهم من التابعين فمن بعدهم ، وهذا غلط لم يقل به أحد من أهل السنة ، ونظيره المذهب المروي عن سعيد بن المسيب أنه لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين وهذا لا يصح [انظر التقييد والإيضاح ( ص 297 ) للحافظ العراقي] عن سعيد والإجماع على خلافه ، قال الحافظ العلائي - رحمه الله - ( والإجماع منعقد في كل عصر على عدم اعتبار هذا الشرط في اسم الصحابي - كيف والمسلمون في سنة تسع وما بعدها من الصحابة آلاف كثيرة وكذلك من أسلم زمن الفتح من قريش وغيرها ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا زمناً يسيراً واتفق العلمـاء عـلى أنهـم من جملة الصحابة ) [كتاب تحقيق منيف الرتبة ( ص 43 ) وانظر فتح الباري ( 7/4 )]. وقال تعالى في مدح الصحابة : وأكثر أهل العلم على أن المراد بالفتح هنا فتح مكة وقيل الحديبية وفيه نظر ، وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله - فتح مكة وأنه ( الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين ، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين ، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء ، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل ا لناس به في دين الله أفواجاً ، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً ، خرج لـه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتائب الإسلام وجنود الرحمن سنة ثمان لعشر مضين من رمضان) [زاد المعاد ( 3/394)] وهذا فتح مكة لأن الحديبية كانت في السنة السادسة في ذي القعدة على قول عروة في أحد قوليه والزهري ومحمد بن إسحاق وغيرهم . وقد أنزل الله - جل وعلا -على نبيه - صلى الله عليه وسلم - منصرفـه مـن الحديبية والمقصود بيان دلالة الآية على عظيم مقام الصحابة وكبير قدرهم وعلى تفاوت منازلهم وتفضيل بعضهم على بعض وأن من أنفق من قبل فتح مكة وقاتل أعظم أجراً وأعلى منـزلة ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل وقد وعد الله - تعالى - كلاً من الطائفتين الجنة . فتحقق بهذا أن من أسلم بعد فتح مكة من الطلقاء وغيرهم وجـاهـد في سبيل الله وأنفق ماله أنه داخل في قوله تعالى : فمن أعمل لسانه وسخر قلمه في الطعن فيهم أو رميهم بالنفاق أو شكك في إسلامهم وأورد الاحتمالات بدون بيان من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وبدون برهان قام عليه الدليل فقد ردَّ على الله خبره وافترى على هؤلاء الصحابة بهتاناً وإثماً مبيناً ، ومثل هذا لا يصدر إلا ممن قلَّ دينه وعظم ظلمه واسودَّ قلبه وبلغ منه الجهل بالكتاب والسنة وسيرة القوم مبلغاً عظيماً وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله- : ( فالطلقاء الذين أسلموا عام الفتح مثل معاوية وأخيه يزيد وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو قد ثبت بالتواتر عند الخاصة إسلامهم وبقاؤهم على الإسلام إلى حين الموت) [الفتاوى (4/466)]. وقال - تعالى - في وصف المهاجرين ومدح الأنصار وذكـر مـن أسلم بعدهم وسار على طريقتهم : فاحفظ يا رعاك الله ثناء الله عليهم ورضاه عنهم ولا يكن في قلبك غِل على أحد منهم فإن هذا من أعظم خبث القلوب ، واستوص بهم خيراً ففي سبيل ذلك تهون الأرواح والدماء . بخلاف محترف الطعن وسوء الظن ، فقد اتعب نفسه وآذى غيره ، فركض وراء السراب وطعن في بعضهم بشبهة أحاديث ضعيفة ومكذوبة وأخبار لها محامل حميدة فقلبها هفوات ومثالب ، ونذر نفسه للوقيعة في أبي هريرة وجعله شخصية متأثرة بكعب الأحبار ، وشخصية توظف النصوص لصالح الأمويين [السلطة في الإسلام ( ص 265- 275 ) وهذا شأن بعض الكتّاب المعاصرين المتأثرين بالمستشرقين وبآراء النظّام رخص عليهم دينهم ، فنصبوا أنفسهم حكاماً على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلبوا الحقائق وأتوا بالعجائب فطعنوا في أبي هريرة تصريحاً لا تلويحاً وزعموا ( أن معظم الإسرائيليات التوراتية وغير التوراتية التي تسربت إلى كتب الأحاديث بما فيها الصحيحان هي من مرويات تلاميذ كعب وعلى رأسهم أبو هريرة ...) وقد جعل هؤلاء من كعب شخصية تعمل على نشر اليهودية والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهذا كلام ليس فيه شيئ من البيان والحجة ومصدره الهوى والجهل أو الخبيئة السيئة ، ولم يذكر قائله دليلاً ولا شبهة دليل على فريته ، ولوحصل شيء من هذا لنهض إليه الصحابة وفصلوا رأسه عن جسده ، فقد كان يعيش بينهم ويأخذ عنهم السنن ولم يعيبوا عليه سوى إكثاره من التحديث عن أهل الكتاب وإتيانه بالغرائب والعجائب ، على أن بعضاً مما يُنقل عنه لا أصل له ولم يأت عنه من وجه يصح . وقد ذكر الحافظ الذهبي في السير (3/489) ( أنه كان حسن الإسلام متين الديانة مـن نبلاء العلماء ... ) وقد سمع منه أبو هريرة - رضي الله عنه - بعض الشيء من أخباره عن بني إسرائيل ، وعُذره في ذلك ترخيص النبي - صـلى الله عـليه وسـلم - بـالتحديث عنهم رواه البخاري ( 3461) في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص فبسط بعض أهل الأهواء لسانه واتخذ من ذلك طعناً في أبي هريرة وتشكيكاً في مروياته واختلاطها بالإسرائيليات ، وهذا تحامل عظيم وطعن في الشريعة قبل أن يكون طعناً في أبي هريرة رضي الله عنه. ومثل هذا الإفك المبين لو علم قائله حقيقته لأمسك عنه فهذا لا يقوله مسلم ولا ينطق به عاقل ، فقد كان أبو هريرة من أحفظ الناس للأحاديث باتفاق الأئمة ، وأضبطهم وأكثرهم تمييزاً لما يروي ولا يمكن أن تختلط عليه حكايات يسيرة سمعها من كعب الأحبار بكلام المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ويؤيد هذا أن أبا هريرة - رضي الله عنه - لم يكن ينسى شيئاً سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروى البخاري - في صحيحه (119) من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : (( قلت - يا رسول الله - إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه ، قال : ابسط رداءك فبسطته قال : فغرف بيديه ثم قال : (( ضمه ))فضممته فما نسيت شيئاً بعده )) رواه البخاري (7354) ومسلم (2492) من طريق الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ آخر]، وآخر صبَّ شآبيب غضبه على معاوية وعمرو بن العاص وعبدالله بن الزبير - رضي الله عنهم - ممتطياً في ذلك الدفاع عن أهل البيت [وهذه الفئة ليس لها ثوابت شرعية تزن بها الأمور ، والغاية من منهجها غير واضح ومعالمه مشتبهة ، وقد قرأت كتاب الرسالة المنقذة للزيدي المستوري ، وكتاب عدالة الرواة والشهود للزيدي المرتضى المحطوري فوجدت تشابهاً في الطرح والعرض ، واتفاقاً في الطعن في بعض الصحابة . ورأيت في كلامهم تناقضات ، وخللاً في التقويم ، وتطفيفاً في الحكم . وقد تبين من مقالاتهم أنه لا يمكن نصر الحق إلا بشيء من الباطل ولا يتم تمييز الحق من الباطل إلا بالجور والعصبية والحمل على الأبرياء فمن ذلك أنه لا يمكن حب أهل البيت ونصرتهم وبيان محاسنهم وفضائلهم إلا بالطعن في معاوية - رضي الله عنه - ومن معه ، وهذا من الجهل والضلال ونصر الحق بالباطل ، فالطعن في آحاد الصحابة من أجل أهل البيت أو غير ذلك عمىً عن الحق وتوغل في الباطل ، فأهل السنة الذين هم أهلها يحبون أهل البيت بدون غلو ولا إطراء ويتولونهم ويذبون عن أعراضهم وحرماتهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يتولون عامة الصحابة ويعرفون لهم منزلتهم ولا يسبون أحداً منهم ، فهم وسط بين الرافضة والنواصب ، فالرافضة لما كانوا أعظم الناس تركاً لما أمر الله به وإتياناً لما حرم الله كفّروا عامة الصحابة إلا أهل البيت فقد غلوا فيهم وأضفوا عليهم خصائص الرب تبارك وتعالى ؛ والنواصب لما كثر جهلهم وغلظت طباعهم وكثر فيهم الشقاق والنفاق تبرؤا من أهل البيت ونصبوا العداوة لهم نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى] محتمياً بشبه كسراب بقيعة نعوذ بالله من الزيغ بعد الهدى فقد سلم منه اليهود والنصارى وقادة الكفر والضلال ولم يسلم من زوبعته أئمة الدين وغيض الأعداء ألا شاهت هذه الجهود وخابت مساعيهم . ومن هنا كان الطعن في أبي هريرة راويـة الإسلام أو معاويـة بن أبي سفيان أحدكتّاب الوحي [جاء هذا بأسانيد صحيحة ، وفي صحيح مسلم (2501) من طريق عكرمة حدثنا أبو زُميل حدثني ابن عباس : أن أبا سفيان طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم - أن يجعل معاوية كاتباً بين يديه . فقال : نعم ... ) وقد تكلم بعض أهل العلم في هذا الإسناد ، واتهموا به عكرمة بن عمار لأسباب يطول شرحها . انظر زاد المعاد (1/109/110) بيد أنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم في كون معاوية - رضي الله عنه - أحد كتاب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - وقد قرأت كتب الحديث والعقيدة وتتبعت كتب السير والمغازي وفتشت في بطون الكتب فلم أجد أحداً خالف في هذا الأمر . " قال أحمد بن محمد الصائغ وجّهنا رقعة إلى أبي عبدالله ما تقول رحمك الله فيمن قال : لا أقول إن معاوية كاتب الوحي ولا أقول أنه خال المؤمنين ، فإنه أخذها بالسيف غصباً ؟ قال أبو عبدالله : هذا قول سوء رديء يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون ونبين أمرهم للناس " رواه الخلال في السنة (2/434) بسند صحيح] للنبي - صلى الله عليه وسلم - دركاً للنيل من حُرَّاس الشريعة الآخرين فالمقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب تُفضي وتؤول إليها ، وحينئذ تأخذ الوسائل أحكام المقاصد . وقدكان أئمة السلف يقولون : ( معاوية - رضي الله عنه - بمنزلة حلقة الباب من حرَّكه اتهمناه على من فوقه ) [تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر (59/210) . (2) تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر (59/209)]. وقال الربيع بن نافع : ( معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه ) [وقيل إنّ يزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنه - لما مرض استخلف أخاه معاوية لما يعرفه عنه من الأهلية والكفاءة والقدرة على سياسية البلاد فأمضى ذلك أمير المؤمنين - رضي الله عنه - وحسبك به في معرفة الرجال ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه )) رواه الترمذي ( 3682 ) من طريق خارجة بن عبد الله عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وقال : هذا حديث حسن صـحيح غـريب مـن هـذا الـوجـه . وانظر البداية والنهاية ( 7/95 ) ، ( 8/21 ) للـحافظ ابن كثير وفتاوي شيخ الإسلام ( 4/472 ) ، ( 35/64-65 )] من المهاجرين والأنصـار وسـاقـه ذلك إلى جحد الكتاب وتكذيب السنة والطعن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه (10/174) من طريق الزبير بن أبي بكر حدثني عمي مصعب بن عبدُالله قال : حـدثني أبي عـبدُالله بن مصعب قال : قال - لي أمير المؤمنين المهدي - يا أبا بكر ما تقول فيمن ينتقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : قلت زنادقة ، قال ما سمعت أحداً قال هذا قبلك ، قال : قلت : هم أرادوا رسول الله بنقص ، فلم يجدوا أحداً من الأمة يتابعهم على ذلك ، فتنقصوا هؤلاء عند أبناء هؤلاء ، وهؤلاء عند أبناء هؤلاء ، فكأنهم قالوا : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصحبه صحابة السوء وما اقبح بالرجل أن يصحبه صحابة السوء فقال : ما أراه إلا كما قلت . قال الإمام أبو زرعة - رحمه الله - ( إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنـادقـة ) رواه الخطيب في الكفاية ( ص97) وابن عساكر في تاريخه (38/32) . والمنقول عن أهل العلم في هذا الباب كثير فقد هتكوا سجف الخائضين في أعراض الصحابـة المفتونين بتتبع هفواتهم وزلاتهم وقد أصاب معاوية - رضي الله عنه - من ظلم هؤلاء وبغيهم ما لم يصب غيره . ونحن لا ننـزه معاوية - رضي الله عنه - ولا من هو أفضل منه عن الخطأ غير أن هذا باب وله ضوابط ، وطعن هؤلاء فساد وله مرامي بعيدة فمعاوية - رضي الله عنه - علم في الأمة طلب المجد فارتقاه ، فظهر صدقه وعفافه وحلمه وعدله واهتمامه برعيته وحسن سياسته لهم على اختلاف منازلهم وتنوع رغباتهم وقد أجمع المسلمون على فضله وصدق إسلامه وأمانته . وقد شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة حنين فدخل في جملة المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم في قوله : فمن وصفه بالنفـاق بعـد الشهـادة لـه بالإيمان فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً ، ومثله تجب استتابته فإن تاب وأناب إلى ربه وإلا وجب على السلطان قتله في أصح قولي العلماء ، ولا عذر لمن ولاه الله أمر المسلمين ومكنه منه أن يدعه بدون عقاب ، أو على الأقل يخنق فكره الشاذ ويضع في يديه ورجليه الأغلال التي تعيقه عن مسار ظالم وهجوم غاشم وأوهام ليس لها زمام ولا خطام . وقد يظن من لا علم عنده أن هذا من الحجر على الاجتهادات واحتكار الآراء والاعتداء على أصحابها وهذا غير صحيح وليس هذا الظن في مكانه . فالاجتهاد في فروع الشريعة والمسائل المختـلف فيها وترجيح ما يقتضي الدليل ترجيحه والنظر في مستجدات الحياة والاجتهاد في بيان حكمها أمر واجب على أهل العلم والنظر ، والحاجة داعية إليه . وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للحاكم المجتهد أجرين إن أصاب الحق ، وأجراً واحداً إن زلت قدمه عن طريق الصـواب والخبـر في الصحيحين من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه . وهذا اللون من الاجتهاد بقيوده وشروطـه الشرعية لا ينازع فيه أهل العلم ، ولهم فيه مصنفات ، ولكن الاجتهاد المذموم المطرح هو زوبعة هؤلاء الجرّاحين في الكلام عن الصحابة والخوض في عدالتهم وفتح المجال للطعن فيهم والحط من قدرهم أو تصنيفهم وتقويمهم كما هو الحال فيمن بعدهم . وهذه حقيقة الفوضوية والخرق للإجماع الصحيح ، ومثل هؤلاء إذا لم يرتدعوا بالوعد والوعيد والبلاغ المقنع فلا عدول عن تقويمهم بالحديد والحكم عليهم بما يكف شرهم ويبطل كيدهم صيانة لعقائد المسلمين من لوثة الرفض ونزعة الاعتزال والله المستعان . ومن مناقبه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوأه مكانة رفيعة وأَناله ثقة كبيرة فجعله كـاتباً للوحي ، وناهيك بذلك عزا وشرفاً ، ولم يزل في المنقبة العظيمة حتى فارق النبي - صلى الله عليه وسلم - الدنيا . واستعمله عمر - رضي الله عنه - على ولاية دمشق [البداية والنهاية ( 8/ 118 ) للحافظ ابن كثير ] بعد موت أخيه يزيد، ولم يتهمه في ولايته ولا طعن أحد من الصحابة في ذلك ، ولما ولي عثمان - رضي الله عنه - أقره على ذلك وزاده بلاداً أخرى فحصل من ذلك خير كثير ففي سنة سبع وعشرين افتتح جزيرة قبرص ( وسكنها المسلمون قريباً من ستين سنة في أيامه ومن بعده ولم تزل الفتوحات والجهاد قائماً على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها ) فصار هذا كالإجماع من علية القوم على فضله وقدرته على سياسة البلاد على أحسن حال ، وهذه حقائق تاريخية ثابتة عند أهل العلم ، ولم يطعن في شيء منها عارف بحقيقة التاريخ ، ومن عميت عليه هذه الحقيقة فسلط قلمه في المخاصمة بها أو طمس حقائقها باحتمالات عقلية وصيحات صحفية فقد وقع في المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين ، فحقائق التاريخ لا يمكن أن تتغير بمثل هذا الإرجاف في الخصام فإن التاريخ كما أثبت ظلم الحجاج وفسقه وسفه يزيد بن معاوية فقد أثبت إيمان معاوية وعلمه وحلمه وعظيم فتوحاته . ومن مناقبه أنه لما ملك وهو أفضل ملوك هذه الأمة كان حسن السيرة كبير القدر عظيم العدل وقد تحقق على يده من الخير ونصرة الدين ما لم يتحقق على يدي من جاء بعده ولذلك أحبتـه رعيتـه وأثنى عليه المسلمون ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضـونـكم وتلعنونهم ويلعنونكم ... ) رواه مسلم في صحيحه من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - وأحق الملوك بهذا الخبر معاوية - رضي الله عنه - ، فإن المسلمين يحبونه ويدعون له ، فلا يطعن فيه أو يتنقصه إلا من رخص عليه دينه . قال إبراهيم بن ميسرة : ( ما رأيت عمر بن عبدالعزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناًَ شتم معاوية فضربه أسواطاً ) وقال عبدالله بن أحمد : ( سألت أبي عن رجل سب رجلاً مـن أصحـاب الـنبي - صلى الله عليه وسلم - قال أرى أن يضرب ، فقلت : له حد . فلم يقف على الحد إلا أنه قال:يضرب وما أراه على الإسلام ). وقال رحمه الله : ( ومن انتقص أحداً من أصحاب رسول الله أو أبغضه لحـدث كان منه أو ذكر مساويه كان مبتدعاً حتى يترحم عليهم ويكـون قـلبه لهم سليماً ). وقال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبدالله وسئل عن رجل انتقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له : رافضي ؟ قال إنه لم يجتري عليهما إلا خبيئة سوء ما يبغض أحد أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وله داخلة سوء. وسئل المعافى بن عمران : أين عمر بن عبدالعزيز من معاوية بن أبي سفيان فغضب من ذلك غضباً شديداً وقال : لا يقـاس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد ، أما معـاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله - عز وجل -. وقيل للإمام أحمد هل يقاس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد ؟ قال معاذ الله قيل : فمعاوية أفضل من عمر بن عبدالعزيز ؟ قـال أي لعمـري ، قـال النبي - صلى الله عليه وسلم - " خير الناس قرني " وما جاء من الأخبار في ذم معاوية - رضي الله عنه - كحديث : ( إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه ) وحديث : ( يا معاوية كيف بك إذا وليت حقباً تتخذ السيئة حسنة والقبيح حسناً يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير أجلك يسير وظلمك عظيم ) وحديث : ( يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتي فطلع معاوية ) وحديث : ( إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها ) فهذه أخبار مكذوبة لا يشك من لـه عناية بالحديث أنها من وضع الكذابين ، ولم ترد في دواوين أهل الإسلام المعروفة ولا في مصنفاتهم المشهورة وقد عمدت الروافض إلى وضع أحاديث في ذم معاوية كما أشار إلى بعضها الخلال في العلل [انظر المنتخب من العلل للخلال (227) لابن قدامة المقدسي، والمنار المنيف (117) لابن القيم ] وابن الجوزي في كتابـه الموضوعات (2/15) وبقيتها منها. ولم يقف كذب الروافض عند هذا فهم أكذب البرية ، فقد اختلقوا أحاديث في مـدح أهل البيت ، وهم غنيون عن مدحهم بالكذب بما صح في السنة من فضلهم ، كما اختلقوا أحاديث في ذم بني أمية لكون بعضهم يسب عليا [ وفضل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وسبقه للإسلام وقرابته من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومصاهرته وعلمه بالدين وأحكامه وسمو مقامه وجهاده وشجاعته وكونه رابع الخلفاء الراشدين المشهود لهم بالجنة أمر مقطوع به لا يجهله مسلم ولا يكابر فيه أحد من أهل القبلة ، ومن سبه أو طـعن فيه فقد افترى قولاً عظيماً واحتمل بهتاناً وإثماً مبيناً ، والخبر المخرج في صحيح مسلم ( 2409 ) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : (( استعمل على المدينة من آل مروان قال : فدعا سهل بن سعد ، فأمره أن يشتم علياً . قال : فأبى سهل . فقال : أما إذا أبيت فقل لعن الله أبا تراب )) فهذه زلة كبيرة يذوب لهولها قلب المؤمن فلا يلتفت لذلك والحساب عند رب العالمين] رضي الله عنه بعد الفتنة ، وقد شاركهم في هذا الذم طوائف ضالة ليس لديها ميزان عدل فأقذعت في السب ورمت بالكلام على عواهنه . ولا وجه لهذا إلا الجهل والهوى والعصبية الجاهلية فإن في بني أمية ثالث الخلفاء عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وصحابة أبراراً خياراً قد ماتوا قبل الفتنة كيزيد بن أبي سفيان وأبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيهم غير ذلك مما هو معروف في الأحاديث الصحاح ، ولكنهم لا يفقهون ولا يعقلون فيجعلون من الحسنة سيئة ومن المعصية كفرا ، ويأخذون الرجل بجريرة غيره ، فإذا أخطأ يزيد بن معاوية أو مروان بن الحكم ؛ حكموا بالخطأ والضلال على معاوية وبني أمية الذين ماتوا قبل أن يولد يزيد ومروان فسبحان من أعمى بصائرهم وطمس على قلوبهم فلا يفقهون الحق ولا يعونه ، ولهذه المسألة بحوث مستقلة تراجع لها ، فالمقصود هنا التنبيه على فضل معاوية - رضي الله عنه - والإنكار على من طعن فيه وهو مع هذا غير معصوم عن الخطأ بل يقع منه - كقتاله يوم صفين [وقـد اتخذت الـرافضة وبعض الكتّاب المعاصرين من هذه الواقعة طعنا في معاوية وتعرية له من الفضائل والمكارم واتهاماًله في مقصده ونيته ، وهولوا في هذه القضية وزادوا ونقصوا ولبسوا الحق بالباطل واختلقوا الأكـاذيب والحكـايات لشينـه وذمه والتشفي منه نعوذ بالله من الحقد والجور (( قيل للحسن يا أبا سعيد إن هاهنا قوماً يشتمون أو يلعنون معاوية وابن الزبـير فقال : على أولئك الذين يلعنون لعنة الله )) رواه ابن عساكر في تاريخه ( 59/206) وجاء رجل إلى الإمام أبي زرعة الرازي فقال : يا أبا زرعة ، أنا أبغض معاوية قال : لم ؟ قال : لأنه قاتل علي بن أبي طالب فقال أبو زرعة : إن رب معاوية رب رحيم ، وخصم معاوية خصم كـريم . فـأيش دخولك أنت بينهما - رضي الله عنهم أجمعين ) رواه ابن عساكر في التاريخ ( 59/141) ، وأهل السنة يقولون في هذه القضية إن الأقرب إلى الحق هو علي - رضي الله عنه - وأدلة هذا كثيرة والواقف عليهـا لا يستـريب في ذلك ، قـال شيـخ الإسلام في الفتاوى (4/433) (( فثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف على أنهم مؤمنون مسلمون ، وأن علي بن أبي طـالب والـذين معه كانوا أولى بالحق من الطائفة المقاتلة له )) ولا شك أن معاوية - رضي الله عنه - كان مجتهداً متأولاً له ما لأهل الاجتهاد والتأويل كما سيأتي إن شاء الله] كما يقع من غيره ، ولم يقل أحد من أهل السنة بعصمته أو عصمة أحـد من الصحـابة خـلافاً للرافضة فإنهم يثبتون العصمة لعلي وأهل البيت وهذا باطل . ولو أمكنة العصمة لعلي - رضي الله عنه - لأمكنة لمن هو أفضل منه كأبي بكر وعمر وعثمان فإذا امتنعت في حق هؤلاء علم بطلانها في حق علي - رضي الله عنه - . والحق ما عليه عامة أهل السنة والجماعة وهو مذهب الصحابة والتابعين وأهل الهدى على مر العصور أنـه لا عصمة لأحـد من الصحابة عن كبائر الإثم وصغائره بـل تجوز عليهم الذنوب في الجملة . ولكن لهم من السبق في الإسلام والجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونشر العلم وتبليغه وطمس معالم الشرك وإذلال أهله والذب عن حرمات الدين بنفس زكية وروح عـالية - ما يكفر الله به سيئاتهم ويرفع درجاتهم وقد رضي الله عنهم وأرضاهـم ومـا جـاء مـن الآثار المروية في مساويهم فهي على ثلاث مراتب : أولها : ما هو كذب محض لا يروى ولا يعرف إلا من روايـة أبي مخنف لوط بن يحيى الـرافضي الكذاب [قال عنه ابن معين : ليس بشيء ، وقال ابن عدي في الكامل (6/2110: ) ( وهذا الذي قاله ابن حبان يوافقه عليه الأئمة ، فإن لوط بن يحيى معروف بكنيته واسمه ، حدث بأخـبار من تـقدم من السلـف الصالحين ، ولا يبعد منه أن يتناولهم وهو شيعي محترق ) وقـال الـذهبي ( 3/419) ( إخباري تالف لا يوثق به ، تركه أبو حاتم وغيره ] أو سيف بن عمر التميمي صاحب كتاب ( الردة والفتوح ) وهو ليس بشيء عند أهل الحديث [قـال عنه ابن مـعين - الكـامـل لابن عـدي (2/1271) : ( فلس خير منه ) وقال أبو داود - تهـذيـب الكمـال ( 12/326) - : ( ليس بشيء ) وقال ابن حبان في كتابه المجروحين ( 1/340) : ( اتهم بـالـزندقـة يـروي الموضوعات عن الإثبات) وذكر الإمام الدار قطني في الضعفاء والمتروكين ص ( 104) ، وقـال الفسوي - المعرفـة والتاريخ (3/58) - ( سيف حديثه وروايته ليست بشيء )] أو الواقدي المتروك[وهو خير من أبي مخنف ، وسيف عـلى ضعـفـه الشديـد ، قـال عنـه يحيى بـن مـعـين - التارخ (2/532) - : ( ليـس بشيء ) وقـال على بن المديني - تهذيب الكمال ( 26/187) ( الهيثم ابن عدي أوثق عندي من الواقدي ولا أرضاه في الحديث ولا في الأنساب ولا في شيء ) ، وقد تركه الإمام البخاري ومسلم وأحمد والنسائي والحاكم وانظر في ذلك ميزان الاعتـدال ( 3/622) وتهـذيب الكمـال ( 26/180-194) والمجروحين لابن حبان ( 2/290)] أو غيرهم ممن لا يعتمد عليهم ولا على مروياتهم وهـم عمدة خصوم الصحابة - رضي الله عنهم - في نقل المساوي والمثالب والوقائع الملفقة وما كان أهل الحديث ونقاده وجهابذة الجرح والتعديل يعتمدون على واحد منهم لعدم ضبطهم وكثرة كذبهم . ثانيها : ما صح سنده ، وله محمل حسن ، فيجب حمله عليه إحساناً للظن بهم ، فهم أحق الناس بهذا وأولاهم بحمل ألفاظهم وأفعالهم على أحسن مقصد وأنبل عمل ، ومن أبت نفسه الخير، وحرمت سلامة القصد ووثب على مقاصد وألفاظ أئمة الدين ، وجعل من المحتمل زلة ، ومن الظن جرحاً ؛ فقد عظم ظلمه وغلب جهله وناله من الحرمان ما نال أمثاله من مرضى القلوب . ثالثها : ما صدر عن محض الاجتهاد والشبهة والتأويل ، كالوقائع التي كانت بينهم ، وغيرها من الأمور القولية والفعلية ، فهذه أمور واردة عن اجتهاد وتأويل ، فللمصيب فيها أجران وللمخطي أجر واحد ، والخطأ مغفور ، لما روى البخاري (7352 ) ومسلم (1716) من طريق يزيد بن عبدالله عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) . فمن أفتى أو حكم أو قضى أو قال بخلاف الحق لشبهة قامت عنده أو سنة لم تبلغه أو تأويل له وجهه فإنه يثاب على هذا الاجتهـاد والخطأ مغفور ، كما دل عليه هـذا الخـبر وكما قال تعالى في دعـاء المؤمنين : وهذا الأصل مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن شابههم فلم يعذروا هذا الصنف من المجتهدين المتأولين وألحقوا بهم أدلة الوعيد وجعلوهم من المذمومين الضالين . وهذا من فساد القلوب والجور في الحكم . فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن المجتهد المخطيء مرفوع عنه الإثم سواء تقدم عهده أم تأخر . ومن طعن فيه بالهوى وألحق به أدلة الوعيد على التعيين ورماه بالضلالة والبدعة فقد قال مالا علم لـه به وشابه في ذلك الخوارج المـارقين ولحقه من الذم ما لحق أشباهه من المعتدين . وأصل البلاء في هذا الباب ناتج عن سببين : الأول : عدم التفريق بين القول بموجب نصوص الوعيد من الكتاب والسنة من حيث العموم والإطلاق وبين لحوق الوعيد ولزومه على الأشخاص على التعيين ، وقد نتج عن هذا القول الباطل فساد في المنهج وظلم للعباد واعتبر هذا بحال فئة من أبناء هذا العصر من تبديع بعضهم بعضاً وطعنهم في اجتهادات إخوانهم ورميهم الدعاة إلى الله بالضلال والخروج عن مذهب أهل السنة . الثاني : الحسد والهوى اللذان يصدان العبد عن طريق الهدى واتباع الحق . وطريق الخلاص منهما بأمرين عظيمين : الأول : العلم بأسماء الله وصفاته وأحكام الحلال والحرام وما يأتي المرء وما يذر ، فإن هـذا يمنع من الجهل على العباد وظلمهم ، ويدعو إلى العدل في القول والعمل . الثاني: الإخلاص لله تعالى فهو أصل كل خير والباعث عليه ، وليس لحظوظ النفس وشهواتـها دواء أنفـع منـه ، قـال تعـالى عـن نبيه الكريم يوسـف الصديق قرأ نافع وأهل الكوفة ( المخلَصين ) بفتح اللام ، أي المختارين المصطفين ، وقرأ آخرون بكسرها ، فدلت على أن الإخلاص وقاية للعبد من الولوغ في الفواحش والبليات نسأل الله السلامة من ذلك.
|